أريد أنا أنام نوم ذلك الطفل
الذى يريد أن يتمزق قلبه
فى أعالى البحار
"لوركا"

.

.

الجمعة، 5 سبتمبر 2014

الرسالة الثانية إلى أمانى



قرأت رسالتك الأخيرة على رخمانينوف . السيمفونية الثانية . سبق و أن نمت و هذه السيمفونية دائرة . حلمت بأننى موجة وسط أمواج البحر الهادىء الغزير الذى تجسدته السيمفونية . يندر أن أحلم بتجسيد بهذا الإتقان :كانت كل موجة صوت مجسدة فى مويجة بحر ، كانت أمواج البحر متكسرة بأشعة القمر إلى مويجات صغيرة متراصة عرْضيا . يحدث لى هذا مع رخمانينوف ، ذى الاسم الموسيقىّ الذى يصل لذروة جماله عند حرف (الخاء) .
.
من خذلنى ؟ إنى أفقد شغف الانتقام بإلقاء تهمة الخذلان إلى أحد ، إلا أنا . يحلو لى فى أحيان كثيرة أن أتهم نفسى بأننى خذلت نفسى . قديما كانت لى صديقة مجنونة ، تصادف أن صاغتنا الأيام وقتها فى صورة المُحبّين . حدثت لى تطورات كثيرة ، وجدت أن هذا لا يجب أن يكون حُبا ، مابيننا كان أكثر سعة من هذا . كُنا مجنونين جمعتنا النزوة وسط تجمع طلابى ضخم نشعر تجاهه بالعدائية . ارتبطتُ بالطفلة المجنونة التى تحولتُ معها لطفل و أغرقتنى فى التفاهات الرشيقة ، لم أتحمل تحولها لامرأة ذكية تختزل كل شىء فى أبعاد علاقة منطقية . انتهى الأمر نهاية مأساوية ، قطيعة تامة مشحونة بالكره و الانتقام . لم أندم على هذه القطيعة . بعدها بزمن ندمت على أننى لا أندم . كان الندم ليخفف من وطأة هذا البرد.
.
حدث يوما أن اتهمتنى بالكذب ، كنتُ فى مول تجارى أشترى بعض الملابس مع أختى . ظللت طوال اليوم أشعر بعدائية سافرة تجاهها بعد أن اتهمتنى على التليفون بالكذب . حتى أننى دخلت مع أختى السينما و لم أركز فى الفلم . ظللتُ محتقرا نفسى بعد أن تخيلت لوقتٍ كافٍ صورتى فى ذهنها المُتخلف . ما يحدث هو أننى أرتبك و أنا أقول الصدق بسذاجة . بعد أن أقطع هذا الشوط لأقول الصدق ، ينهدم كل شىء باتهام عدوانى من عقلية خبيثة و مختزلة . كان يجب أن أكون كاذبا بغير ارتباك . متغاضيا عن التفاصيل الحقيقية التى سيقطع استرجاعها أنفاسى و فى النهاية ، تتعرض جوهرة تفاصيل مشاعرى الصغيرة للذباب .
.
ما خذلنى دائما هو قدرتى على الكذب !
.
الموسيقيون العظماء بارعون فى الكذب . كان كذبهم خفيفا يأخذ سمة الحقيقة . الكذبة عندما يتم تقبلها سريعا بدون هواجس سخيفة تتحول لحقيقة ، أو تُستخرج منها الحقيقة . و هذه مفارقة لا يمكن إيضاحها منطقيا . خفة الكذب تعطيه مساحة لاستقطار كل ما بداخله من جواهر الحقيقة . الحب ، الموسيقى ، الأداء المسرحى لمآسى شكسبير ، عصر الباروك و بذخ القصور ، الرشاقة الظاهرة لأجساد متهالكة فى أصلها و غارقة فى الخمول . كل الحضارة .
.
تعرضتُ للخذلان حديثا . قررت أن أحكى بسذاجة بعض التفاصيل الحميمة لمشاعرى فى أدق أغوارها المُفعمة بالوحدة و الخزى ، لصديقة مُقرّبة ، فانقلبت الأجواء و شعرت بهجمة عدوانية وُجهت ل(سذاجتى) فى أوج ثقتها و أمانها . بلغ الأمر إلى سخرية من طريقة (سذاجتى) فى نطق الكلام و طبقات صوتها الغريبة فى لحظات الانفعال . ما أرادت (سذاجتى) أن تحكيه إلى جانب أحداث و تفاصيل أخرى كثيرة ، هو الاعتراف بخيط الكذب فى علاقتى بهذه الصديقة ، و الذى يُغلف كل الصدق الحقيقى الموجود بيننا . لقد بلغت (سذاجتى) هذا الحد من الغرور لتحكى شيئا كهذا مع شخص شن كل غاراته الهوجاء علىّ من أجل اعترافات أكثر تفاهة قلتها أولا !
.
أحب هذه الكذبة الجميلة . الخامسة لتشيكوفسكى ، على الرغم من أن تشايكوفسكى بالنسبة لى موسيقار من الدرجة الثانية . الموسيقىّ الروسى الأول هو رخمانينوف .
الأغنية جميلة كذلك ، سمعتها و قرأت رسالتك ثانية ً
.
أتمنى أن يحوطك الهدوء و السلام
أن يكون خبثك أكثر شفافية ، و كذبك أكثر خفة و جمالا
على أحرّ من الجمر سأنتظر رسالتك

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق