أريد أنا أنام نوم ذلك الطفل
الذى يريد أن يتمزق قلبه
فى أعالى البحار
"لوركا"

.

.

الثلاثاء، 2 سبتمبر 2014

القديس أوجسطين يبارك صداقتنا

من يومين كنتُ مع أحد اصدقائى على قهوة فى مكان غريب لا نعرفه . حدثنى عن علاقته التى انتهت بلا سبب محدد ، فقط منعه الكسل و الخمول و الملل من الاتصال بها ، و انتهت الحكاية و لم يندم على شىء . قال أن تكوين علاقات مع البشر شيء صعب ، و لم يكن فى حالة تسمح لى أن أعرض له حماسى بصداقاتى ، دون أن يستقبل كلامى بنظرة ساخرة . قلت أننى أوافقه على صعوبة التعامل مع البشر التى تقرب من الاستحالة ، و لكن العلاقة الحقيقية موجودة ، و نحن نحس بها بشكل مباشر يقينى دون أن ننجح فى أن نضع تعريفا لها . سألته إن كان مؤمن بالله . ضحك و أجاب بشكل مُبالغ فيه : إنه بصرف النظر عن أى شىء فى هذا العالم ، فإن كل ذرة فى كيانه مُشبعة بهذا الإيمان . فقلت له إن العلاقات مع البشر شىء على هذا الطريق ، إنه الشىء نفسه . هذا الشىء الذى بصرف النظر عن كل شىء نعرف أنه موجود
..........
 أعتقد أن أنضج قراءة ، هى القراءة التى تنطلق بمرونة و دقة ، لكن لتلتف فى النهاية حول نقطة تشغلها من البداية . لا أقصد أن يتم هذا بالكذب و التحريف المطلق للكلام ، لكن أن يكون هذا الالتفاف حول النقطة الاولى ذروة لمراعاة أقصى درجة ممكنة من الدقة و احترام ذاتية النص . النص البشرى الجيد هو امتداد للنص المقدس ،  إنه - من وجه ٍ ما - يحوى كل شىء ، و مسموح فيه لأى قارىء أن يبحث فيه-  بتلقائية بسيطة و بدون نية محددة مبيتة - عن نقطة هوسه. يحدث معى أحيانا أن أكتب نفس الهامش - حصيلة التداعى الذهنى لقراءة النص - فى قلب ثلاثة كتب متتالية ، لا يبدو من عناوينهم او إطاراتهم الخارجية حتى إنهم يتناولون أفكار متشابهة  . او أن أحدث الرفاق على القهوة فى نقطة و عندما أرجع البيت أقرؤها فى كتاب
 ........
غنىٌّ عن البيان أن من خواص هذه النقطة أنها أقرب إلى الهاجس الغير محدد ،  و أنه لا يمكن صياغتها فى تعريف إلا تجاوزا . ما أن يصل إليها القارىء ، حتى يعلم يقينا أن هوسه موجود ، و أن هوسه من السعة بحيث يمكن ان يتشكل من طريق ٍ آخر ، و أن هوسه حقيقى  ، و أن هوسه صديقٌ له على نفس المستوى ، و ليس مهرجا حقيرا تابعا لأمزجته التافهة ، و أن هوسه قادرٌ على أن يجذبه إلى قلب الرفقة الأكبر للعالم . و عندها يشعر القارىء أنه على أرض ثابتة
.......
 أما عن هوسى أنا ، فهو ما يمكن تسميته تجاوزا ب"الحضور المباشر" . إن ذروة تداعيات قراءاتى تصل فى النهاية للتفريق بين ماهو حضورٌ مباشر ، و ماهو غير ذلك . كل مواقفى أتغنى فيها بهذا الحضور ، إما تمجيدا لتحققه النادر ، و إما لأنه مُفتَقد بشدة فى علاقات ضبابية مشوبة بالحرج المؤلم لسوء الفهم ، فغيابه يجعله مميزا و أكثر وضوحا ، فيكون التغنى حنينا له ، ذلك الرفيق القديم الذى له مسٌ و أثر على الجسم . أننى مستعد حتى لأن أتغنى بهذا الحضور مع الشخص الماثل امامى الذى انتهت
بالفشل محاولة تلاقينا و تفاهمنا ، قبل أن أهجره الهجران التام 
..... 
الحضور المباشر موجود ، و رغم أنه عصىٌّ على التحديد ، فإننى قادر أحيانا على أن أرسم فى ذهنى رسمة تجريدية له موازية  للسياق المركب الذى تحقق فيه . الحضور المباشر مثلا هو أن تتيقن ، قبل ان تنطق بالجملة ، بأنها ستخرج سلسة و أن صديقك الذى يستمع إليك سيفهمها على نفس الطريق ، و سيبتسم فى اللحظة المناسبة لتفاعل ابتسامتك . وهو ، مثلا ، أن تتيقن من أن صديقك متيقن من براءتك ، هذا اليقين الذى سيجعله يتجاوز كل شرورك الصغيرة ، مما يجعلك مستعدا لأن تمارس معه تلك الشرور و تردد معه بلا حرج كل تداعيات ذهنك الوسخ. إننى الآن غارقٌ فى ذكريات علاقاتى ، لأتذكر هذا الحضور ، و لكن لا ترجع إلى الذهن إلا تلك الرسومات التجريدية التى تكفى للتمسك باليقين
......
ما لم أقله لصديقى على القهوة فى هذا اليوم ، على الرغم من أنه كان حاضرا فى ذهنى بقوة ، أننى على عكسه ، غير متأكد من إيمانى بالله ، و لكن لو أن هذا  الإيمان أصبح حقيقيا ، فأنا على يقين من انه سيكون امتدادا للصدق و اليقين المميز لعلاقتنا ، أيها الاصدقاء . ربما أنسى أشكالكم إن فرقتنا الظروف ،ربما تغيب عنى ذكريات التفاصيل الدقيقة التى جمعتنا ، لكننى لن أفقد هذا اليقين ، و سأظل ممتنا لخيالاتكم التجريدية ، فأنتم سمحتم لى أن أفهم أنه ،بصرف النظر عن اى شىء فى العالم ، فإن هذا الشىء موجود .
............
يوليو 2014

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق