أريد أنا أنام نوم ذلك الطفل
الذى يريد أن يتمزق قلبه
فى أعالى البحار
"لوركا"

.

.

الجمعة، 21 نوفمبر 2014

رسالة اعتذار إلى م .م

فكرتُ و قررتُ أننى لن أكتب لك هذا الجزء المحذوف من القصة . أعتذر على أننى لن أنفذ ما وعدتُ . إننى محرج شيئا ما ، من ناحية أخاف أن تأخذ انطباعا مختلفا عما أريده ، إذا قرأت هذا الجزء مقطوعا من سياقه ، و من ناحية أخرى أنا خجلٌ من هذه القطعة ، و من هذا السياق . الكاتب الجيد يجب أن يكون صارما و جادا ، و بلا تردّد يحذف ، بخط ٍ واحد من القلم ، الأجزاء التى كتبها و هو على درجه عالية من الانتشاء . 
هذا الانسجام الذى تحقق بيننا ، إن كان حقيقيا ، و هذا ما أتمناه ، موضعه ليس القصة ، إنه غير معقول ، بدرجة أكبر من اللامعقولية المسموح بها فى السرد . إنه شىء صنعناه برفقتنا ، فى ركننا شديد الخصوصية ، و نحن نحمل عبء الخجل الناتج عنه ، و كسرة العين إذا لم يكن حقيقيا . هذا الخوف ، هشاشة علاقتنا التى تتمثل فيها كل قوتها ، يُخجلنى من أن أعلنها فى محفل ٍ من الناس ، لو تجرأ أحدهم و سخر مننا ، سأصدق حسه الساخر و أخجل أكثر .
الكاتب الجيد يحترم القارىء ، و لكن ليس إلى حد كبير . من ناحية أخرى ، الكاتب الجيد يستحى أن يثقل على القراء بفقرات مقدسة تأخذ مكانها بين كل النصوص المقدسة المشكوك فيها . نحن نخص الأقربين بهذه المغامرات التى تتمثل فى كتابة فقرات مقدسة .
لقد تركتُ فى القصة مواطن التنافر و الغضب اللا نهائى ، الذى لن يتبخر إلى انسجام كما كانت المسودة الأولى ، و لكن سيتضاعف بمكالمة تليفون حلمتُ بها : حيث كلمتَنى و صوتك مبحوح و كنتَ مشرف على هلاك و تستنجد بى ، لكننى شككتُ ، مثقلا بتاريخ كدبك ، الذى كان واضحا فى وعى الحالم ، و تحول شكى إلى غضب ٍ تجاهك . و انشغلتُ بأشياء أخرى تافهة عن مأساة احتضارك فى
التليفون .
تركتُ للناس أن يستخرجوا الحب من كل تلك صحراء الغضب و الأحلام التى تنتهى بتعارك جسدى . أما الدلائل المباشرة للانسجام ، فليس من طبيعتها أن تُحدّد بالكتابة . إن الموضوع أشبه بوضع خطوط تحت الجمل الملهمة فى كتاب ، و هى العادة التى استسخفتها فى سلمى ، و بعدها مباشرة ، لأول مرة ، مسكت قلم و أغرقت الكتب خطوطا . و بعدها لاحظ جعفر هذا . قال أنه رأى خطوطا فى كتبى . و كالعادة انتابنى الخجل
و وقعت فى الخجل و غرقتُ فى الخجل
و شُنقتُ بالخجل
و تعريتُ بالخجل . فاعتذر لى و لا تكن مِلحاحا . و لكن لا تبخل علىّ ببعض إلحاحك فى الوقت المناسب ، حتى أرسم ..على الأقل.. خطوطا قليلة لبعض الاحتفال

الأحد، 12 أكتوبر 2014

الرسالة السابعة إلى أمانى

منذ يومين كتبتُ جزءا ضئيلا من الرواية . كتبتُ فى صفحة و نصف جزءا كنتُ أقلبه فى رأسى منذ سنة ، وكان من المقرر أن يكون متشعبا و طويلا و ممتدا ، لكننى فوجئت أننى انتهيت مسلما و راضيا بصفحة و نصف . قبلها بيومين حدث نفس الشىء ، كتبتُ جزءا أفكر فيه منذ سنة فى أقل من صفحة ! لا أعلم كيف اكتسب أسلوبى هذه السمة : إننى حين أكتب أقفز ، أمدّ يدى بسرعة و ألوى عنق النهاية ، أو أفتحُ كفى و ألقى بذروة المقطع تذروها رياح هوجاء تقصف عمر المقطع . الرواية عبارة عن مقاطع ، لكل مقطع ذروة (وحدة) . و هو البناء الذى أقلقنى و أدخلنى فى متاهات و ضاعف همومى ، و الذى يعود إلىّ فى أحلام حتى الأيام التى أبتعد فيها عن الكتابة ليُلح على ضميرى : كيف كتبتُ بهذا الشكل الغريب ، هل لأنى قصير النَفَس ؟. لكننى لا ألبث أن أنفض عنى هذا الإحباط لأذكر نفسى : إنها الضرورة الفنية التى صنعت هذا البناء ، فبطل القصة وحيد ، ضعيف الذاكرة ، معدوم الملامح ، و يتكىء بأنفاس ذاكرته القصيرة على الملامح المميزة لبعض أصدقائه القليلين . هل هذا يخرجنى من دائرة الندم ؟
أكتبُ هذه الرواية منذ سنتين ، بدأتُ كتابتها من حلم غنى التفاصيل و واضح وضوحا نادرا ، و سمحت لى طاقة احتمال أحد الأصدقاء ليسمعه منى ، أن أستدعيه بقوة أكثر ، و أربط خيوطه ، و فجأة قررت أن أبدأ من البداية ، صور الماضى التى ظهرت فى الحلم ، الطفولة ، المراهقة ، تذكرتُ كل شىء بوضوح ، كان هذا ليبدو مستحيلا : أن يتم التقاط شىء من بئر العشرين سنة المظلمة . الحقّ أن هذا المشروع عزلنى بشكل كبير ، إننى شغلتُ كل همى لأعالج تفاصيل عالم شديد الخصوصية ، يقع تحت الأرض و لم يره النورُ . مرت بى أحداث كارثية و أثناء وقوعها كنتُ منفصلا عنها ، أفكر كيف سأكتبها ! بعتُ الواقع و تشبثت بهذا العالم . إيمان غريب بفجوة مظلمة ، زاد من توترى و جعلنى أكثر ارتيابا . وصل بى هذا الارتياب من نفسى ومن البشر و من الطريقة التى من الممكن أن يقيّم بها البشر مشروعى هذا ، وصل بى هذا الارتياب لدرجة جعلتنى أتحول لمسخ ، يستحيل عليه حتى أن يشبه البشر .
لم أخرج من هذا الجنون إلا من أشهر قليلة ،خرجتُ منه نسبيا ، تركت الكتابة فى هذه الرواية و اقتربتُ أكثر من الناس ، و أصدقاء الدرجة الثانية و أحيانا الثالثة . (أصدقاء الدرجة الأولى يحكمون عزلتى أكثر فأكثر) . و الآن أعود لأكتب ، و لكن بخفة أكثر ، ليس هذا بشىء سىء أو جيد ، لكنه التطور الذى أخذته الرواية بفعل الضرورة الخارجية لتطور بطلها . إننى الآن أدفع كل هذه السنين لتقع فى الهو ، و تتبدد ، و ليكن ما يكون ، و النهاية التى وضعتها يوما و التى كانت تتبلور فى الإيمان بالجمال ، فالذى أعتقده إنها لن تصمد لهذا السقوط الأرعن ، و قلمى الذى أصبح أكثر سرعة ، و أسوأ خطا ، سيتجاوزها سهوا
.
فى أول الرسالة كنت منتويا أن أحدثك عن شغفى بالكتابة ، و فشلى المرتبط بهذا الشغف ، و لكن الرسالة طالت بى دون أن أصل لهذه النقطة ، و لكن اغفرى لى ، فأنا أحدثك عن أهم ما فى حياتى ، فطبيعى أن أكون مملا
ربما الرسالة القادمة تكون رومانسية ، غارقة فى جمال و حرارة فشلى المُحبّب
.
أعتذر عن سؤالى الذى سبب لكِ الإحراج
جاوبينى عليه برشاقة ، و بفِتت متفرقة بين الرسائل
اكتبى إلىّ بسرعة

الاثنين، 6 أكتوبر 2014

الرسالة السادسة إلى أمانى

أكتبُ إليك الرسالة السادسة ، و أنا تحت تأثير الحمى و الهذيان . أصابتنى نزلة معوية و جميع أعصاب جسمى تتعرض لنغزات مُهلكة . و عندما تركت أصدقائى و ركبت الميكروباص انتباتنى رعشة فضممت ساقىّ و سندت برأسى على الزجاج . عندما طلبتِ منى أن أكتب رسالتى أولا هذه المرة و تكتبى أنتِ الرد . قررت أن آخذ راحة من كتابة الرسائل و أشغل رأسى بإيقاع ٍ آخر ، و لكننى الآن قررت أن أجرب أن أكتب لكِ تحت تأثير بعض الهذيان .
فكرتُ أمس أن أجمل فضائلى تتحول تحت سهام الشك و ندم ما قبل الليل إلى صفات سيئة ، إننى أعامل الناس بشكل ٍ طيب ، و أفخر بقدرتى التلقائية فى إبهار الناس بذوقى و حسن معاملتى ، حتى أننى كثيرا ما أفاجىء بذوقى الناس الذين يأخذون عنى انطباعا خاطئا من الصراحة التى تتخلل كتابتى . مثلا ، قالت لى صديقة عرفتنى أكثر مؤخرا ، أننى مخيف ، و أنها كانت تخشى أن تكلمنى فأحرجها . وصلنى هذا أيضا مرتين من أصدقائى ، قالت لهم صديقاتهم أنهن يأخذن عنى نفس الانطباع . أرى أن فرص عديدة للتعارف ضاعت بسبب الانطباع الذى أخِذ عنى قبل أن تسمح المصادفة بتعامل مباشر . و لكن هذا ليس موضوعنا . تحت سهام الندم ، أرى فضيلتى هذه نقيصة ، إننى أغلف تعاملى بحسن الذوق لقلة العشم و الثقة فى الناس : هل يتقبلون طاقة غضبى ؟ . إن الهالة الجميلة لحسن ذوقى تبدو فى أوقات ما قبل النوم المؤلمة ، و كأنها زجاج معتم يفصلنى عن البشر . هل ابتسامتى فى وجه من أقابلهم فى المواصلات أو فى وجه البائع الذى أشترى منه شيئا تعتبر فضيلة ؟ . أحيانا أجد أن لديهن الحق ليأخذن هذا الانطباع ، على الرغم من مستويات الذكاء و الإدراك المختلفة لهن ، ربما جمع بينهن الذكاء الغريزى الذى أحس من لغتى الجسدية إننى قليل الوثوق بالبشر ، أننى أحمل فى قلبى الخوف منهم ، و الاحتقار و الغضب الأهوج من اقل هفوة تصدر من أحد ، على الرغم من ابتسامتى التى سمحت لهن المصادفة أن يلمحنها أو لم تسمح !
إننى تجاوزتُ إحساسى بعدم الأمان ، و لكن هل يبقى مؤثرا ، أن نجاحى الباهر هذا مجرد قشرة فوق محيط أسود من الإحساس بعدم الأمان ؟
و لذلك لن يفهمنى صديقى المصاب بالفوبيا الاجتماعية ، إنه يرى الإقبال على الحياة و العلاقات متلألئا فى عينى - وهذا حسب تعبيره - لكنه لم يقترب اكثر ليحس بهذا المحيط الأسود . إننى لم أرضيه ، لم أحدثه و أخرج معه كفاية ، لم أنصحه إلا فى لحظات تهور نادرة . الخلاصة : لم أرضيه ، لأننى لم و لن أرضى ميله المازوخى ليظهر فى ضعف استثنائى وسط مجموعة من الأقوياء . فوبياك ليست بشىء بالنسبة لى ، قلبى لا يملك البريق الذى فى عينىّ ، إننى فقط ببعض النضج المتواضع و حسن التربية و القراءات التى بالمصادفة كانت مُجدية بعض الشىء ، غلّفتُ ببعض الرشاقة و خفة الدم و التواصل الحميم ، جسدى المنطوى ، المنطوى على حقيقته الأكبر و الأشمل : أنه منطوى !
إننى أسبح فى حلم "المؤقت" ..الذى يسعفنى فى أوقاتٍ مناسبة قليلة ، ليجعلنى أعود إلى التفكير فى سخافة الإله المصاب بضخامة النظر ، الذى لا يرانا إلا و نحن على الحافة .
ذلك الشره إلى النوم مثلى !
اكتبى إلى رسالة أقل هذيانا من هذه
إننى لا أعرف ماذا كتبتُ
اكتبى إلىّ

السبت، 20 سبتمبر 2014

الرسالة الخامسة إلى أمانى

أعتذر عن تعقيد الرسالة الرابعة ، لقد قررتُ ، قبل أن أنهض عن السرير و أشرع فى كتابتها ، أن أذعن لتلقائية التداعى ، و أن اكتبها بسرعة ، و بدون تفكير أضغط على "حفظ" . و بعدما أنهيتها لم أعاود قراءتها و لم أغير جملة ً واحدة منها ، حتى التعابير غير الدقيقة فى الجزء الخاص بالموسيقى لم أغيرها و منها تعبير (مكشوطة الذرى) و هو تعبير غير دقيق لوصف الكلاسيكية (هايدن و موتسارت) فذراهما تصل للسماء . لكن ما أردتُ أن أقوله أن امتدادها – طولا – شديد القصر و الاستطراد العاطفى المميز للرومانسية غير موجود ، و هو ما قصدته بأنهما – بالإضافة إلى بيتهوفن – خلفا لنا البكاء البشرى ، بمعنى أنهما استنزفا عبقرية البناء الكلاسيكى ، فلم يملك مَن بعدهم إلا البكاء : امتداد الخط الذاتى الغنائى ، و رجوع "البناء" إلى الخلفية بالنسبة لهذا الخط الذاتى .
اسمعى الرباعية الوترية 18 لموتسارت ، فستجدينه يمد خيوطا للسماء و لا يسترجعها . موتسارت هو أكثر من يعزل الإنسان عن الواقع و يعلق أنظاره ببلاهة بنقطة غير محددة فى السماء ، أنه حرفيا "طفل إلهى" . و كذلك الاستغراق فيه يخلف ندما !
https://www.youtube.com/watch?v=ArJXhsSH9zc
.
رجعت أمس متعبا ، و نمت على عدة مرات ، و بين نوبتى نوم ، رفعت رأسى ، و كان اللاب على الترابيزة بجوار السرير مفتوحا ، وجدت أحد أصدقائى يعلق على رسالتى إليكِ قائلا : مدونتك طفولية ، احنا عجزنا . اليوم لم أجد التعليق و سألته هل حدث هذا أم كان حلما ، فقال انه كتب التعليق فعلا و مسحه . لقد بلغت "إمكانية الصراحة" مع هذا الصديق حدا نادرا ، من الممكن أن نعترف معا – ضمنا- بأننا أوغاد و نحن نستمع لموسيقى نذوبُ فى روحانيتها ، رغم ذلك ! . الجزء الذى يربطنى بهذا الصديق ، وهو أصفى عقل قابلته فى حياتى ، هو الجزء العقلانى فىّ ، المولع بدقة اللغة و "واقعية التفصيلة" فى مقابل "تهويم الكل" . المشهد المركز الذى يخرج من الذاكرة فى البادرة الأولى ليجسد علاقتى بهذا الصديق ، هو إننى نائم فى تجويف حجرى فى قلب جبل ، و أيقظتنى همهمة الأصدقاء التى تستعجلنى للاستيقاظ و النزول ، فوجدت جسدى مرتعشا بشكل غريب و مفزع ، أقسمت أننى لن انهض و سأنتظر معجزة ، كانت أبلغ درجات الضعف التى وصلتها فى حياتى . كان صديقى هذا جالسا جوارى ، و فى الخلفية صورة مرتعشة لصديقين أخرين عند فوهة الكهف و هما قلقان من حالتى . مد صديقى يده و كان صوته فى أذنى قاسيا و هو يقول : قوم و استحمل ، محنا لازم ننزل . مفيش معجزات ! . و الذى حدث بعدها فى الحدث الحقيقى ، أننى اتكأت كلية ً عليه إلى أسفل الجبل . لكن بعدما قمت بمعجزة و نهضت من نومتى .
.
دعينا نضع قوانين لرسائلنا ، أولها أن تُكتب مرة ً واحدة ، و بدون إعادة صياغة أو حذف .
.
حدثينى عن صداقاتك و علاقات حبك ، و لتحاولى بقدر الإمكان ، بالنسبة إلى الصداقات ، أن تتجاوزى طبيعة الأنثى ، و تكونى صريحة و قليلة المجاملة ، إننا نلقط كذبكن فى هذا الباب بقرون استشعار.
.
اسمعى هذه المقطوعة لشوبان ، ربما أكلمك فى الرسالة القادمة عنه
https://www.youtube.com/watch?v=QGhRn64Gf9w
.
أتمنى لك دوام سلامة الذوق و الامتلاء بالحياة
اكتبى إلى مهما كنتِ مشغولة 

الخميس، 18 سبتمبر 2014

االرسالة الرابعة إلى أمانى


مرة و أنا أسمع باخ ، قمت من النوم و قررت أن الله موجود . بعدها لم أتبين الهاجس ، صغته و قلتُ: لا يمكن أن يتمسك إنسان بفكرة بهذا الشكل دون أن تكون حقيقية . بعد انتهاء امتحانات هذه السنة ، و مرور فترة من النقاهة ، رجعتُ إلى التجديف . قلتُ أن ما حدث لى كان تأثيرا مبالغا فيه من أثر الامتحانات . و فى امتحانات السنة التالية – سنتى الاخيرة – رجعتُ و سمعت نفس الكانتاتا ، هربت من المذاكرة و دخلت لأحدث أحد أصدقائى و حكيت له عن هاجس السنة السابقة ، أردت أن أعبر بدون ابتذال عن إن هذا الهاجس يعاودنى الآن ، بينما أحدثك ..يا صديقى ! .. و أريد أن أسجل هذا الحدث بالحديث معك .
.
أعتذر عن طول الرسالة و تعقيدها ، و لكنك أنت طلبتِ هذا ، أكتب الرسالة الثانية و النصف صباحا أول يوم الأربعاء . استيقظت الثلاثاء مبكرا بساعات نوم قليلة ، و ظللت طوال اليوم أقاوم النوم ، لأضبط نومى و أنام مبكرا ، و بينما كنت أنتظر النوم ، قمت بحماس لأسجل تداعى الخواطر الذى فاجأنى ، موازيا للسيمفونية 44 لهايدن ، التى قررت أن أستمع إليها و أنا فى بدايات النوم .
.
فى فترات طويلة ، يحدث أن أقع فى أسر باخ ، ليست هذه مبالغة ، انه تسليمٌ حقيقى ، كثيرا ما أمسك نفسى متلبسا و أنا أسند قلبى و أستسلم لدمعة مريحة راحة موجعة للضمير . هذه الساعات المطوّلة من الاستماع لباخ ، هذا الافراط يفتقد للتوازن . قلتُ مرة : إننى لو ظللت قشة تافهة و مجهولة من التاريخ ، فسأظل مستمتعا ، سأموت و أترك التاريخ مطمئنا أن اسم باخ يرنّ فيه ، سيكون هذا مجدى . بعدها ندمتُ على هذه المبالغة ، ليس لأننى كذبت ، و لكن ، الأسوأ ، أننى شعرتُ بهذا فعلا ، فى نوبة مخزية و أنا أستعد للنوم .
مرة ، كنا –أنا و أحد الأصدقاء – نتكلم فى أمور أذكر أنها كانت جادة ، على خلفية من كانتات باخ الدائرة على اللاب ، و بعد ساعة و نصف توقف فجأة و قال : ما تطفى موسيقة الميّتين دى . ضحكتُ ، و شعرت بتنهيدة ارتياح و أنا اطفىء باخ ، و أهرب منطلقا من هذا الشلل . صديقى هذا مكتئب منذ أيام ، لم أعرف هذا إلا منذ ساعات ، ظننته سافر دون أن يُخبرنا و أن موبايله المغلق أصابته مشكلة . عرفت أن صديقا آخر أهانه ، عندما قيل لى هذا على القهوة منذ ساعات ، لم أتأثر ، انشغلت فقط برسم تعبير الانتباه وسط عيون اعتقدتُ انها مترصدة لتحديد موقفى فى ضبط الأمور و التصويب على المخطىء ، و فقط منذ دقائق ، و أنا أفكر إننى بعد ربع ساعة سأكون على السرير أستعدّ للنوم ، فكرت فى هول ما حدث : صديقى الذى ارتبطت به لسنوات طويلة هذا الارتباط العاطفى ، مكتئب و حبيس بيته منذ أيام ، موبايله مغلق و لا يدخل على الفيس ، لا يكلم أحدا ، لمجرد انه تعرض لإهانة يُفترض أن تكون بالغة . و انتابنى ندم مُلح و غير مفهوم . صديقى هذا ، قررت أكثر من مرة فى الفترات الأخيرة ، أن علاقتى العاطفية معه يجب أن تأخذ شكلا أكثر تعقلا و ثباتا ، خصوصا بسبب التباعد الشاسع الذى يزيد مع الوقت بين أفكارنا و شخصيتينا ، لكننى فوجئت ، عندما تعرض لإهانة ، إننى على استعداد لنبش كبد عدوّه ، و هو صديقى الآخر الذى سمعتُ باخ و أنا أكلمه ، نادما ..كالعادة.. من هذا الأسر
.
منذ عدة ساعات كتب أحدهم أن الموسيقى الكلاسيك قليلة التنوع و القيمة مقارنة بالموسيقى الحديثة (الميتال ، الروك ، البلوز و الجاز) . و عندما رددتُ عليه : الكلاسيك هو الأصل . رد : بأن الموسيقى الحديثة هى المعبرة عن جنون العصر، بينما الكلاسيكية هادئة ، و انه مُعجب بفنون ما بعد الحداثة ! . سكتّ . لم أقل أن الكلاسيك (و تسميتها الصحيحة : الموسيقى العالمية الغربية) هى التعقيد العظيم الذى استُنزفت إمكانياته لمدة خمسة قرون . اسمعى الرابعة و الأربعين لهايدن . هايدن هو ضلع مثلث الكلاسيكية ، و الضلعان الآخران هما : موتسارت و بيتهوفن . الجزء الأول من السيمفونية و الذى سأرفقه بالرسالة ، هو تُحفة غنية بالتفاصيل بشكل لا يُصدق ، من الخارج يبدو و كأنه لا يعبر عن شىء ، لأن المشاعر المنطلقة مكشوطة الذرى ، تذبحها زخرفة أعم و أعلى منها ، إنها تحركات صغيرة و قصيرة النفس ، لا يُصدّق تنوعها . و فى كل لمحة بسيطة.. من لحن لازمة تكرر مرة زائدة فى جزء دون آخر ، أو خاتمة خط لحنى تم مطها لمقام ٍ آخر بتداعٍ منطلق و غريب ، فى كل لمحة من هذه التحركات ، شعور متهالك بالبكاء تم تجاوزه بسرعة لا تُدرك ، وسط زحام ٍ و تعقيد آخذ شكل التجريد . و هو ما يضفى عليها من الخارج سمة الهدوء . موتسارت و هايدن حققا الجنون الأمثل للثراء و الشمول و استنزفا الكلاسيكية –جوهرة التاريخ النادرة – إلى النخاع ، ليُخلفا لنا فقط البكاء البشرى . الضلع الثالث ، بيتهوفن ، جاء بتفاصيل أقل و أثبت و نفسها أطول ، و سمح بمسافة أطول لصوت بكائه الخاص ، الأكثر تعريا ، بالظهور ، و بذلك ، فتح الباب للرومانسية .
.
لن أستطيع أن أطوّل عن هذا ، للحديث بقية . يجب أن أستعدّ للنوم الآن محاولا التخلص من ندمى ، و أسمح ، على الأقل لهايدن ، و ليس باخ ، أن تستغرقنى تفاصيله دون قلق
أتمنى أن تُجلَّل مساعيك الحمقاء بالحب ، و إن كان عابرا
لا تتأخري فى الرد

https://www.youtube.com/watch?v=Rc_HutAEG_0

الاثنين، 15 سبتمبر 2014

الرسالة الثالثة إلى أمانى

كيف تكتبين و ذهنك مشتت رسالة بهذا القدر من الجمال ؟ ، إنها أجمل رسالة . أعترف لك إننى فى البداية تقبلت كتابتك ببعض الحرج ، وجدت أنها مزدحمة بخيال مرتبكٍ فقير و بعيدة عن البساطة. على الرغم من هذا ، فإن من قلب هذه الزحمة شعرت بجزء ٍ أصيل ، دفعنى لأقرأ كل ما أقابله تحت صورتك حتى و لو كان طويلا .
.
لست فى حاجة لأن أعدل نقدى بمدحٍ أكبر ، فاستفاضتى فى رسائلى إليك هو أكبر دليل على أننى أحفر بشغف لاستبطان هذا الجزء الأصيل عبر رسائلك المنتظرة .
لقد حركَتْ قلبى بساطة وصفك لأمير الأيام الأربع ، و سلاسة اعترافك بأنك مراهقة حمقاء . أقسم أن قلبى تحرك لهذه اللفتة الصادقة . كانت حماقتك تغرق الرسالة ، و تسيل منها سائلا ورديا شفافا .
أشعر بنشاطك و أحسدك عليه ، الآن أنا فى أقصى درجات الفراغ الممكنة ، أفكر بتطرف فى الاحتمالات ، فقط و أنا مُلقىً على السرير: فى العمل القادم ، الدراسة ، اللغات التى يجب أن أتقنها ، السفر ، ساعات النوم ، و القدر المناسب من الطعام الذى يجب أن أظبط حياتى عليه ، كل هذا القلق المتطرف من إيقاع حياتى القادمة ، و الذى يجب أن يكون مضادا لإيقاع هذا الفراغ ، لم يجعلنى حتى أخطو خطوة ً للأمام . و كعادتى أنتظر شيئا مُلهما أعلم أنه لن يدوم طويلا . إننى ربما عكسك ، لا أبدع وأنا مشتت ، طاقة الإبداع تتولد عندى من قلب الخمول و الاسترخاء . ربما خلق الله الناس صنفين فى هذا . و لذلك فأنا أرهب البعد عن الاسترخاء ، أخاف النشاط الزائد يُبعدنى عن صورتى المحببة التى أتمسك بها بكل كيانى ، على الرغم من سوء شكل و رائحة هذا الكسل الثقيل المتراكم على نفسه !
.
الجزء الأصيل الذى حدسته وسط ارتباكك ، ربما يكون فى الإحساس بهذا المنحدر الزلق الذى سيفلت منه اعترافك الوشيك . طاقة الاعتراف واضحة على وجهك . إننى أغنى إلى هذه الهالة ! .
.
كيف حُرمتِ من الأسرة ؟
.
أتمنى أن تنجحى و تنيرى دوما القاهرة بالتواجد فيها
اكتبى إلىّ و أنتِ مشتتة
.

الجمعة، 5 سبتمبر 2014

الرسالة الثانية إلى أمانى



قرأت رسالتك الأخيرة على رخمانينوف . السيمفونية الثانية . سبق و أن نمت و هذه السيمفونية دائرة . حلمت بأننى موجة وسط أمواج البحر الهادىء الغزير الذى تجسدته السيمفونية . يندر أن أحلم بتجسيد بهذا الإتقان :كانت كل موجة صوت مجسدة فى مويجة بحر ، كانت أمواج البحر متكسرة بأشعة القمر إلى مويجات صغيرة متراصة عرْضيا . يحدث لى هذا مع رخمانينوف ، ذى الاسم الموسيقىّ الذى يصل لذروة جماله عند حرف (الخاء) .
.
من خذلنى ؟ إنى أفقد شغف الانتقام بإلقاء تهمة الخذلان إلى أحد ، إلا أنا . يحلو لى فى أحيان كثيرة أن أتهم نفسى بأننى خذلت نفسى . قديما كانت لى صديقة مجنونة ، تصادف أن صاغتنا الأيام وقتها فى صورة المُحبّين . حدثت لى تطورات كثيرة ، وجدت أن هذا لا يجب أن يكون حُبا ، مابيننا كان أكثر سعة من هذا . كُنا مجنونين جمعتنا النزوة وسط تجمع طلابى ضخم نشعر تجاهه بالعدائية . ارتبطتُ بالطفلة المجنونة التى تحولتُ معها لطفل و أغرقتنى فى التفاهات الرشيقة ، لم أتحمل تحولها لامرأة ذكية تختزل كل شىء فى أبعاد علاقة منطقية . انتهى الأمر نهاية مأساوية ، قطيعة تامة مشحونة بالكره و الانتقام . لم أندم على هذه القطيعة . بعدها بزمن ندمت على أننى لا أندم . كان الندم ليخفف من وطأة هذا البرد.
.
حدث يوما أن اتهمتنى بالكذب ، كنتُ فى مول تجارى أشترى بعض الملابس مع أختى . ظللت طوال اليوم أشعر بعدائية سافرة تجاهها بعد أن اتهمتنى على التليفون بالكذب . حتى أننى دخلت مع أختى السينما و لم أركز فى الفلم . ظللتُ محتقرا نفسى بعد أن تخيلت لوقتٍ كافٍ صورتى فى ذهنها المُتخلف . ما يحدث هو أننى أرتبك و أنا أقول الصدق بسذاجة . بعد أن أقطع هذا الشوط لأقول الصدق ، ينهدم كل شىء باتهام عدوانى من عقلية خبيثة و مختزلة . كان يجب أن أكون كاذبا بغير ارتباك . متغاضيا عن التفاصيل الحقيقية التى سيقطع استرجاعها أنفاسى و فى النهاية ، تتعرض جوهرة تفاصيل مشاعرى الصغيرة للذباب .
.
ما خذلنى دائما هو قدرتى على الكذب !
.
الموسيقيون العظماء بارعون فى الكذب . كان كذبهم خفيفا يأخذ سمة الحقيقة . الكذبة عندما يتم تقبلها سريعا بدون هواجس سخيفة تتحول لحقيقة ، أو تُستخرج منها الحقيقة . و هذه مفارقة لا يمكن إيضاحها منطقيا . خفة الكذب تعطيه مساحة لاستقطار كل ما بداخله من جواهر الحقيقة . الحب ، الموسيقى ، الأداء المسرحى لمآسى شكسبير ، عصر الباروك و بذخ القصور ، الرشاقة الظاهرة لأجساد متهالكة فى أصلها و غارقة فى الخمول . كل الحضارة .
.
تعرضتُ للخذلان حديثا . قررت أن أحكى بسذاجة بعض التفاصيل الحميمة لمشاعرى فى أدق أغوارها المُفعمة بالوحدة و الخزى ، لصديقة مُقرّبة ، فانقلبت الأجواء و شعرت بهجمة عدوانية وُجهت ل(سذاجتى) فى أوج ثقتها و أمانها . بلغ الأمر إلى سخرية من طريقة (سذاجتى) فى نطق الكلام و طبقات صوتها الغريبة فى لحظات الانفعال . ما أرادت (سذاجتى) أن تحكيه إلى جانب أحداث و تفاصيل أخرى كثيرة ، هو الاعتراف بخيط الكذب فى علاقتى بهذه الصديقة ، و الذى يُغلف كل الصدق الحقيقى الموجود بيننا . لقد بلغت (سذاجتى) هذا الحد من الغرور لتحكى شيئا كهذا مع شخص شن كل غاراته الهوجاء علىّ من أجل اعترافات أكثر تفاهة قلتها أولا !
.
أحب هذه الكذبة الجميلة . الخامسة لتشيكوفسكى ، على الرغم من أن تشايكوفسكى بالنسبة لى موسيقار من الدرجة الثانية . الموسيقىّ الروسى الأول هو رخمانينوف .
الأغنية جميلة كذلك ، سمعتها و قرأت رسالتك ثانية ً
.
أتمنى أن يحوطك الهدوء و السلام
أن يكون خبثك أكثر شفافية ، و كذبك أكثر خفة و جمالا
على أحرّ من الجمر سأنتظر رسالتك

الثلاثاء، 2 سبتمبر 2014

القديس أوجسطين يبارك صداقتنا

من يومين كنتُ مع أحد اصدقائى على قهوة فى مكان غريب لا نعرفه . حدثنى عن علاقته التى انتهت بلا سبب محدد ، فقط منعه الكسل و الخمول و الملل من الاتصال بها ، و انتهت الحكاية و لم يندم على شىء . قال أن تكوين علاقات مع البشر شيء صعب ، و لم يكن فى حالة تسمح لى أن أعرض له حماسى بصداقاتى ، دون أن يستقبل كلامى بنظرة ساخرة . قلت أننى أوافقه على صعوبة التعامل مع البشر التى تقرب من الاستحالة ، و لكن العلاقة الحقيقية موجودة ، و نحن نحس بها بشكل مباشر يقينى دون أن ننجح فى أن نضع تعريفا لها . سألته إن كان مؤمن بالله . ضحك و أجاب بشكل مُبالغ فيه : إنه بصرف النظر عن أى شىء فى هذا العالم ، فإن كل ذرة فى كيانه مُشبعة بهذا الإيمان . فقلت له إن العلاقات مع البشر شىء على هذا الطريق ، إنه الشىء نفسه . هذا الشىء الذى بصرف النظر عن كل شىء نعرف أنه موجود
..........
 أعتقد أن أنضج قراءة ، هى القراءة التى تنطلق بمرونة و دقة ، لكن لتلتف فى النهاية حول نقطة تشغلها من البداية . لا أقصد أن يتم هذا بالكذب و التحريف المطلق للكلام ، لكن أن يكون هذا الالتفاف حول النقطة الاولى ذروة لمراعاة أقصى درجة ممكنة من الدقة و احترام ذاتية النص . النص البشرى الجيد هو امتداد للنص المقدس ،  إنه - من وجه ٍ ما - يحوى كل شىء ، و مسموح فيه لأى قارىء أن يبحث فيه-  بتلقائية بسيطة و بدون نية محددة مبيتة - عن نقطة هوسه. يحدث معى أحيانا أن أكتب نفس الهامش - حصيلة التداعى الذهنى لقراءة النص - فى قلب ثلاثة كتب متتالية ، لا يبدو من عناوينهم او إطاراتهم الخارجية حتى إنهم يتناولون أفكار متشابهة  . او أن أحدث الرفاق على القهوة فى نقطة و عندما أرجع البيت أقرؤها فى كتاب
 ........
غنىٌّ عن البيان أن من خواص هذه النقطة أنها أقرب إلى الهاجس الغير محدد ،  و أنه لا يمكن صياغتها فى تعريف إلا تجاوزا . ما أن يصل إليها القارىء ، حتى يعلم يقينا أن هوسه موجود ، و أن هوسه من السعة بحيث يمكن ان يتشكل من طريق ٍ آخر ، و أن هوسه حقيقى  ، و أن هوسه صديقٌ له على نفس المستوى ، و ليس مهرجا حقيرا تابعا لأمزجته التافهة ، و أن هوسه قادرٌ على أن يجذبه إلى قلب الرفقة الأكبر للعالم . و عندها يشعر القارىء أنه على أرض ثابتة
.......
 أما عن هوسى أنا ، فهو ما يمكن تسميته تجاوزا ب"الحضور المباشر" . إن ذروة تداعيات قراءاتى تصل فى النهاية للتفريق بين ماهو حضورٌ مباشر ، و ماهو غير ذلك . كل مواقفى أتغنى فيها بهذا الحضور ، إما تمجيدا لتحققه النادر ، و إما لأنه مُفتَقد بشدة فى علاقات ضبابية مشوبة بالحرج المؤلم لسوء الفهم ، فغيابه يجعله مميزا و أكثر وضوحا ، فيكون التغنى حنينا له ، ذلك الرفيق القديم الذى له مسٌ و أثر على الجسم . أننى مستعد حتى لأن أتغنى بهذا الحضور مع الشخص الماثل امامى الذى انتهت
بالفشل محاولة تلاقينا و تفاهمنا ، قبل أن أهجره الهجران التام 
..... 
الحضور المباشر موجود ، و رغم أنه عصىٌّ على التحديد ، فإننى قادر أحيانا على أن أرسم فى ذهنى رسمة تجريدية له موازية  للسياق المركب الذى تحقق فيه . الحضور المباشر مثلا هو أن تتيقن ، قبل ان تنطق بالجملة ، بأنها ستخرج سلسة و أن صديقك الذى يستمع إليك سيفهمها على نفس الطريق ، و سيبتسم فى اللحظة المناسبة لتفاعل ابتسامتك . وهو ، مثلا ، أن تتيقن من أن صديقك متيقن من براءتك ، هذا اليقين الذى سيجعله يتجاوز كل شرورك الصغيرة ، مما يجعلك مستعدا لأن تمارس معه تلك الشرور و تردد معه بلا حرج كل تداعيات ذهنك الوسخ. إننى الآن غارقٌ فى ذكريات علاقاتى ، لأتذكر هذا الحضور ، و لكن لا ترجع إلى الذهن إلا تلك الرسومات التجريدية التى تكفى للتمسك باليقين
......
ما لم أقله لصديقى على القهوة فى هذا اليوم ، على الرغم من أنه كان حاضرا فى ذهنى بقوة ، أننى على عكسه ، غير متأكد من إيمانى بالله ، و لكن لو أن هذا  الإيمان أصبح حقيقيا ، فأنا على يقين من انه سيكون امتدادا للصدق و اليقين المميز لعلاقتنا ، أيها الاصدقاء . ربما أنسى أشكالكم إن فرقتنا الظروف ،ربما تغيب عنى ذكريات التفاصيل الدقيقة التى جمعتنا ، لكننى لن أفقد هذا اليقين ، و سأظل ممتنا لخيالاتكم التجريدية ، فأنتم سمحتم لى أن أفهم أنه ،بصرف النظر عن اى شىء فى العالم ، فإن هذا الشىء موجود .
............
يوليو 2014

الاثنين، 1 سبتمبر 2014

رسالة الجمال المُهداة إلى محمد مصطفى

كانت عندى مشكلة فى إننا - رغم إن بتجمعنا نفس العقيدة - بنيجى عند نقطة معرفش ايه هى و نختلف ، اختلاف عصبى ، بيخلينا نقول كلام مش عاوزين نقوله ، لما بنسترجع اللى قلناه بعد كده بنكتشف بمنتهى الخجل إننا قلنا كلام اهبل و مش مترابط ، و عصبيتنا على بعض مكانتش مفهومة ، و إن الموضوع فلت منّا . و فى الغالب بتبقى النتيجة : إن هو بيلبس لبس الصوفى المستسلم اللى بيستقبل الإشارات الخفية الدالّة على جمال ربنا ، و أنا باخد موقف المنكر المستهزىء 

.................................................................................

فى فلم (الجمال الأمريكى) - وكان هو اللى ألحّ إنى أشوفه ، ضميرى متقبلش الفلم أوى ، مش عارف ليه ! ..فى النهاية
بهرتنى الكاميرا لما لفت من حوالين البطل لحد ما وقفت على الحيطة ، و بعدها بصقة دم عملاقة طرطشت على الحيطة

 .........................................................

كنا فى الكلية ..كان فاضل ربع ساعة على امتحان ..طلعنا وقفنا فى الشمس بره ، ملقيناش حد ناخد منه سيجارتين ، رحت لعربية واحد صاحبى و خدت منه سيجارتين و رجعت وقفت معاه فى الشمس لوحدينا ، و لما قلتله إن اللى خدت منه السيجارة مابيحبوش و كان مبضون وهو بيدينى السيجارة ، أصرّ إنه ميشربهاش ، و أنا ألحيت إنه يشربها ، فعاند زى طفل ، و انا اتضايقت و زعقت فى وشه لأول مرة ، قلتله : أنا مش سايب الامتحان و قاعد معاك عشان تفقعنى ، ساعتها خد السيجارة و هو مضطر ..و صعب عليا لأن بان عليه أوى إنه اضطر ياخد السيجارة ، حسيت إنه اتعرض لذل ، و قعدنا ربع ساعة من غير كلام ..لكن فى آخر دقيقتين قبل ما أروح على الامتحان ، الحاجز اتكسر و اتكلمنا تانى و قدرت أفهمه ليه فلم (الجمال الأمريكى) مريحنيش : الفلم فكرنى بيه : كائن مستسلم مسبقا لفكرة الجمال الذى يحكم العالم ، فكرة الجمال بالنسباله ترف ، كنت شايف إن الجمال - لو وُجد - لازم يكون صادم و قوى ، يهد الإنسان فى الواقف اللى بيصر فيه على إنكار دلالاته الغير مكتملة . عند نيتشه فيه مثال مخنث للمستدفئين بالنار ، و مخترعى الحكايات ، بينما الإنسان الخارق بيمشى فى البرد ..بيستمر على طلوع الجبل فى البرد القارص ، و على الضفة الإخرى ، فيه الشمس ..فى النهاية فهمنى . قاللى : قصدك منمسكش للجمال ايريال !..لغتنا كانت مستعارة ..استعارة فقيرة و مضللة 

...............................................................

فيه شىء بعيد جوايا و مش مفهوم : انتشاء - فى اقصى درجات الاكتئاب - خبيث ، منتظر اللحظة اللى كل شىء هينتهى فيها عشان يطفو هو ، نقطة انتشاء جوايا لو فكرت فيها لثانيتين جسمى بيقشعرّ ، حتى لَيشمت فى الكوارث اللى بتصيبنى أنا ، النقطة دى أقوى من أى شىء ..إحساس لدنّى حدسى يقينى لا يعرف الشك ، إن النقطة دى أقوى و أبقى ، لما بستردّ أوقات الضيق و الاكتئاب ، بفتكر على نار هادية ، التفصيلة اللى كانت صادفت عينى فى الوقت اللى الشعور ده انتابنى للحظة و خلانى أفهم إنى بتخابث على كل شىء . التفصيلة دى لوحة عظيمة ، حتى لو كانت لمقلب زبالة ، بل خصوصا لأنها لمقلب زبالة ....هنا بلاقى صدى عنده هو ، بفهم إن نفس العقيدة بتجمعنا ، رغم اختلافاتنا فى اللغة المستعارة اللى بيخش فيها الله و الدين و نيتشه !

...........................................


فى جنازة أبو فرح ، كان يوم ملهم بالنسبالى ، صحيت على اتصال (أحمد حسين ) قمت استحميت ، إسلام و أحمد حسين جولى ..و اضطرينا نستنى ساعتين فى أوضه حر و مشمسة مبيغطيهاش إلا ستاير شبه شفافة ، و مفيش أكل ولا شرب( نهار رمضان) ، قعدوا على الأرض و انا مددت على أنتريه صغير تنيت عليه جسمى و مسكت كتاب قديم كنت راميه من زمان فى الأوضه دى ، كان ديوان لمحمد عفيفى مطر ، قريت حتة من (فرح بالماء ) كانت جميلة ..فضلت قاعد ع الكنبة مش متململ ولا متضايق من ربكة قعدتنا المؤقتة فى اوضه مفتوحة ..رحنا الجنازة . مشينا فى حتة مليانة زبالة و كان فيه جثث لمعيز ميتة بتتحرق ، مزاجى كان معتدل ، فيه حدث صادم ، و أنا حزين ، و آمنت ساعتها إن مفيش علاقة بين الحزن و اكتئاب المزاج ...كنت حاسس بإخوة شديدة بينى أنا و إسلام و جعفر و حسين واحنا فى ربكة مواساة فرح ...الجو كان حر جدا و الشمس كانت فاشخة النافوخ

 .................................................................

الفكرة كانت بدات تتبلور ، محمد مصطفى جه بعدها بيومين يعزّى فرح ، و بات عندى ، كنت مصرّ انه يبات عشان أحكيله يوم الجنازة بالتفصيل ، متكلمناش فى الموضوع ده إلا ربع ساعة ، و بقية اليوم نميمة على الناس و الكلية . فرح حكالى عن حلم حلمه قبل وفاة والده بيومين ، كان بمثابة إشارة . اللى أنا مصرّ عليه و مكنتش برضه أعرف ليه ، إنى أوطّى على فرح و أحلفله بكل شىء فى الوجود إن مفيش عفاريت ، و مفيش إشارات ..أنا متيقن من كده ، و ده المشهد المشرق اللى كتبته قبل كده فى القصة : فرح بيوطى على أمه و بيحاول يهدى من قلقها و يحلفلها إن مفيش عفاريت . فى القصة ، فيه فصل عن مراهقة إسلام و مراهقتى ، و فصل عن محمد مصطفى و كلامه عن ربنا و إشاراته ، و فصل عن فرح و العفاريت ، و فصل عن خوف أحمد حسين . و البلّورة اللى بتخرج من كل ده هى النهاية اللى هقول فيها لمحمد مصطفى إن قوانين ربنا لا شىء إلا الواقع ، و ربنا أوضح و أنصع من أجواء الغموض و الصدف و العفاريت و شحتفة المراهقين و حفلات البكاء ، و لغته الوحيدة هى تقل الواقع ، و هنا الجمال مش ورقة طايرة صورها الواد الأوفر اللى فى ( الجمال الأمريكى) ..الجمال هو اللحظة اللى تقبلنا فيها الواقع . بعبارة أدق : الجمال هو الاستسلام للسرعة المربكة اللى تم بها كل شىء
 ...................
تبصر الموت هو تبصر الحرية
 الصداقة تأخذك لعزلة أعمق 
قلق كل موقف ، مرفرف بالخفة المكتوبة لنهايته
.............
يوليو 2013

الأحد، 31 أغسطس 2014

الرسالة الأولى إلى أمانى


كذلك تمنيت أن أرى الجمال فى كل ما تقع عليه عينى . تمنيت أن أراه فى رسالتك المنتظرة ، حتى أننى كتبت فى آخر يوميّة قبل نصف ساعة من قراءة رسالتك : يارب ، اجعل أمانى تُخرج فى رسالتها أجمل ما فيها . و كان وقع كتابتى ل(أمانى) غريبا !
جلستُ أمس مع صديق لى ، حدثنى عن علاقاته العديدة التى انتهت ، كان كلامه مستفزا و باعثا على اليأس . صديقى متقافز دوما فوق الأيام و البشر . القدرة على الارتباط عند صديقى شبه منعدمة . قلتُ له أن العلاقة الحقيقية تعنى الارتباط بشخص بعينه لا يمكن أن يحل محله بديل ، لأن المركب الذى يتكون بين شخصين هو كالبصمة التى لا يمكن أن تتكرّر . سألته : هل لو ابتعد عنك أحد الأصدقاء المقربين ، و الذين تصدح بأسمائهم متفاخرا بصداقتهم ، هل ستشعر بالنقص الدائم و تظل أعرج ، أو ستستبدل آخرين ؟ . و كنتُ سعيدا بالحيرة و الحرج الذيْن سببتهما لصديقى المستفزّ . قال أنه لم يسأل نفسه هذا السؤال من قبل .
صديقى كتلة من النشاط و الذكاء الذى يلهمنى ، لكنه كتلة متفجرة و هائمة فى الفراغ بغير نقطة ارتكاز . أحلم بالليالى التى نسهر بها فى أحد بيتينا أو فى الشوارع و أرى نفسى أتبعه كشخصين فكهين بحس ٍ عبثيّ و ثقة برشاقة ذوقنا الموسيقى ، لكننى ،مجرجرا ساعات نومى الطويلة ، أتشبث بذيل عباءته الفضفاضة و هو يهوى ..بكل طاقته المُلهِمة.
صديقى يجهز لهجرته .
أما عن نفسى ، يا أمانى ، فقد عرفتها فى علاقاتى القليلة و التى أسميها معجزاتى الصغيرة . فى الإحساس بالخزى من القريبين ، و الذى يمكن تجاوزه بمعجزة ، عرفت نفسى فى عمق هذا الإحساس بالخزى . – الآن ، راجعت هذا الجزء من رسالتك – لم تقولي الخزى ، قلتى الخوف . لا أعلم لم خُيل إلىّ إنك قلتى الخزى ! . إن هذا الخوف و القلق من القريبين شكّلنى ، و لن يمكن أن أهرب من هذا الخوف إلا و سأرتدى عباءة فضفاضة و أهوِى .
أما عنكِ ، يا أمانى ، فقد شعرت من صورك فى الجامعة ، أنك بين جدران مكان سخيف ، مثل المكان السخيف الذى كنت أدرس فيه و تُلتقط لى فيه الصور ، لم تشبهى نفسك فى هذه الصور أبدا ، لا يمكن أن تُشبه هذه الصور أحدا . بعدما عدتُ من السفر رأيت صور شخص آخر ، ربما تُشبه شخصا جميلا ، و لكن كونها تُشبهك أو لا ، فهذا ما لا أعلمه على وجه الدقة .
أما صورة فتاة بسماعات فى أذنها و غارقة فى عالمها الخاص ، فهى صورة خادعة . لا يمكن أن تُلتقط صورة لشخص غارق بسماعات فى أذنه ..متخيلا شعاع الشمس و هو ينعكس على وسامته ، و يأمل من هذه الصورة أن تُشبهه. لا تحاولي صنع الصورة التى تُشبهك ، فهى ستأتى وحدها . لا يمكن البحث عن الذات بنية مبيتة . حَدَث أن اُلتقطت لى صورة سريعة و غير متقنة ، مع رفقاء رحلتى الأخيرة ، و هى صورة اُهملت من جامعى الصور و منظميها . وجدت هذه الصورة : كان أصدقائى لحظة الالتقاط يحاولون ضبط أوضاعهم فى ارتباك و عجل ، و وسط هذا الزحام ، ألقيت نفسى بسرعة ، قبل التقاط الصورة ، على صديقى الجالس على الأرض فى المقدمة : كانت يداه مشتبكتين على صدرى ، و كانت ذراعى ملتفة حول ركبته و يدى مرخية و مستكينة على ساقه ، بينما ساقاى ممتدتان فى صلف . كانت هذه الصورة تُشبهنى !
أما عن الموسيقى ، فإن علاقاتى بها مما يطول شرحه ، ربما أتطرق إلى ذلك فى رسائل أخرى .
أتمنى لكِ تحقق الذات و الإيمان بالبشر ، و أن يحوطك الحب كذلك و يستغرقك الجمال ..و أنتظر رسالتك