أريد أنا أنام نوم ذلك الطفل
الذى يريد أن يتمزق قلبه
فى أعالى البحار
"لوركا"

.

.

الخميس، 18 سبتمبر 2014

االرسالة الرابعة إلى أمانى


مرة و أنا أسمع باخ ، قمت من النوم و قررت أن الله موجود . بعدها لم أتبين الهاجس ، صغته و قلتُ: لا يمكن أن يتمسك إنسان بفكرة بهذا الشكل دون أن تكون حقيقية . بعد انتهاء امتحانات هذه السنة ، و مرور فترة من النقاهة ، رجعتُ إلى التجديف . قلتُ أن ما حدث لى كان تأثيرا مبالغا فيه من أثر الامتحانات . و فى امتحانات السنة التالية – سنتى الاخيرة – رجعتُ و سمعت نفس الكانتاتا ، هربت من المذاكرة و دخلت لأحدث أحد أصدقائى و حكيت له عن هاجس السنة السابقة ، أردت أن أعبر بدون ابتذال عن إن هذا الهاجس يعاودنى الآن ، بينما أحدثك ..يا صديقى ! .. و أريد أن أسجل هذا الحدث بالحديث معك .
.
أعتذر عن طول الرسالة و تعقيدها ، و لكنك أنت طلبتِ هذا ، أكتب الرسالة الثانية و النصف صباحا أول يوم الأربعاء . استيقظت الثلاثاء مبكرا بساعات نوم قليلة ، و ظللت طوال اليوم أقاوم النوم ، لأضبط نومى و أنام مبكرا ، و بينما كنت أنتظر النوم ، قمت بحماس لأسجل تداعى الخواطر الذى فاجأنى ، موازيا للسيمفونية 44 لهايدن ، التى قررت أن أستمع إليها و أنا فى بدايات النوم .
.
فى فترات طويلة ، يحدث أن أقع فى أسر باخ ، ليست هذه مبالغة ، انه تسليمٌ حقيقى ، كثيرا ما أمسك نفسى متلبسا و أنا أسند قلبى و أستسلم لدمعة مريحة راحة موجعة للضمير . هذه الساعات المطوّلة من الاستماع لباخ ، هذا الافراط يفتقد للتوازن . قلتُ مرة : إننى لو ظللت قشة تافهة و مجهولة من التاريخ ، فسأظل مستمتعا ، سأموت و أترك التاريخ مطمئنا أن اسم باخ يرنّ فيه ، سيكون هذا مجدى . بعدها ندمتُ على هذه المبالغة ، ليس لأننى كذبت ، و لكن ، الأسوأ ، أننى شعرتُ بهذا فعلا ، فى نوبة مخزية و أنا أستعد للنوم .
مرة ، كنا –أنا و أحد الأصدقاء – نتكلم فى أمور أذكر أنها كانت جادة ، على خلفية من كانتات باخ الدائرة على اللاب ، و بعد ساعة و نصف توقف فجأة و قال : ما تطفى موسيقة الميّتين دى . ضحكتُ ، و شعرت بتنهيدة ارتياح و أنا اطفىء باخ ، و أهرب منطلقا من هذا الشلل . صديقى هذا مكتئب منذ أيام ، لم أعرف هذا إلا منذ ساعات ، ظننته سافر دون أن يُخبرنا و أن موبايله المغلق أصابته مشكلة . عرفت أن صديقا آخر أهانه ، عندما قيل لى هذا على القهوة منذ ساعات ، لم أتأثر ، انشغلت فقط برسم تعبير الانتباه وسط عيون اعتقدتُ انها مترصدة لتحديد موقفى فى ضبط الأمور و التصويب على المخطىء ، و فقط منذ دقائق ، و أنا أفكر إننى بعد ربع ساعة سأكون على السرير أستعدّ للنوم ، فكرت فى هول ما حدث : صديقى الذى ارتبطت به لسنوات طويلة هذا الارتباط العاطفى ، مكتئب و حبيس بيته منذ أيام ، موبايله مغلق و لا يدخل على الفيس ، لا يكلم أحدا ، لمجرد انه تعرض لإهانة يُفترض أن تكون بالغة . و انتابنى ندم مُلح و غير مفهوم . صديقى هذا ، قررت أكثر من مرة فى الفترات الأخيرة ، أن علاقتى العاطفية معه يجب أن تأخذ شكلا أكثر تعقلا و ثباتا ، خصوصا بسبب التباعد الشاسع الذى يزيد مع الوقت بين أفكارنا و شخصيتينا ، لكننى فوجئت ، عندما تعرض لإهانة ، إننى على استعداد لنبش كبد عدوّه ، و هو صديقى الآخر الذى سمعتُ باخ و أنا أكلمه ، نادما ..كالعادة.. من هذا الأسر
.
منذ عدة ساعات كتب أحدهم أن الموسيقى الكلاسيك قليلة التنوع و القيمة مقارنة بالموسيقى الحديثة (الميتال ، الروك ، البلوز و الجاز) . و عندما رددتُ عليه : الكلاسيك هو الأصل . رد : بأن الموسيقى الحديثة هى المعبرة عن جنون العصر، بينما الكلاسيكية هادئة ، و انه مُعجب بفنون ما بعد الحداثة ! . سكتّ . لم أقل أن الكلاسيك (و تسميتها الصحيحة : الموسيقى العالمية الغربية) هى التعقيد العظيم الذى استُنزفت إمكانياته لمدة خمسة قرون . اسمعى الرابعة و الأربعين لهايدن . هايدن هو ضلع مثلث الكلاسيكية ، و الضلعان الآخران هما : موتسارت و بيتهوفن . الجزء الأول من السيمفونية و الذى سأرفقه بالرسالة ، هو تُحفة غنية بالتفاصيل بشكل لا يُصدق ، من الخارج يبدو و كأنه لا يعبر عن شىء ، لأن المشاعر المنطلقة مكشوطة الذرى ، تذبحها زخرفة أعم و أعلى منها ، إنها تحركات صغيرة و قصيرة النفس ، لا يُصدّق تنوعها . و فى كل لمحة بسيطة.. من لحن لازمة تكرر مرة زائدة فى جزء دون آخر ، أو خاتمة خط لحنى تم مطها لمقام ٍ آخر بتداعٍ منطلق و غريب ، فى كل لمحة من هذه التحركات ، شعور متهالك بالبكاء تم تجاوزه بسرعة لا تُدرك ، وسط زحام ٍ و تعقيد آخذ شكل التجريد . و هو ما يضفى عليها من الخارج سمة الهدوء . موتسارت و هايدن حققا الجنون الأمثل للثراء و الشمول و استنزفا الكلاسيكية –جوهرة التاريخ النادرة – إلى النخاع ، ليُخلفا لنا فقط البكاء البشرى . الضلع الثالث ، بيتهوفن ، جاء بتفاصيل أقل و أثبت و نفسها أطول ، و سمح بمسافة أطول لصوت بكائه الخاص ، الأكثر تعريا ، بالظهور ، و بذلك ، فتح الباب للرومانسية .
.
لن أستطيع أن أطوّل عن هذا ، للحديث بقية . يجب أن أستعدّ للنوم الآن محاولا التخلص من ندمى ، و أسمح ، على الأقل لهايدن ، و ليس باخ ، أن تستغرقنى تفاصيله دون قلق
أتمنى أن تُجلَّل مساعيك الحمقاء بالحب ، و إن كان عابرا
لا تتأخري فى الرد

https://www.youtube.com/watch?v=Rc_HutAEG_0

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق